حياة بشغف رغم مرارة الألم.. فيكتور فرانكل
في 2019-08-06
  • قصة شغف وأثر

في عام 1905 وُلد فيكتور إميل فرانكل بالعاصمة النمساوية "فيينا"، وكان "فرانكل" منذ صغره شغوفاً بفهم النفس البشرية، وكان يقرأ الكتب والمصادر ذات الصلة بشغفه منذ طفولته، ومن شدة حبه للقضايا المتصلة بفهم النفس البشرية، فقد بدأ بمراسلة مؤسس مدرسة التحليل النفسي "سيغموند فرويد" عندما كان في السادسة عشر من عمره، مما شجع "فرويد" على دعوته لنشر أول مقال له في "المجلة الدولية للتحليل النفسي" وهو في عمر التاسعة عشر من عمره فقط، ليقوم بعدها بتقديم عدد من الأعمال الأخرى في "المجلة الدولية لعلم النفس الفردي" بدعوة من عالم النفس الكبير "ألفرد أدلر".


وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية عام 1923م، التحق بكلية الطب في جامعة فيينا، وبقي شغفه حيَّاً داخله ويدفعه، فتخصص بعلم الأعصاب والطب النفسي، إذ يشكّل هذا الاختصاص أقرب نقطة التقاء بين تخصص الطب وفهم النفس البشرية، ورغم النجاحات العظيمة التي حققها في حياته، فإنّه مرّ بظروف استثنائية، وكان أبرزها هو اعتقاله وتعرضه لتعذيب شديد من الناحية الجسدية والنفسية.


ومع ذلك لم تؤثر تلك الظروف على شغفه بفهم النفس البشرية وعلاج أمراضها، بل سخر تلك التجربة القاسية والمريرة جداً لخدمة مشروعه وهدفه في الحياة، فقد كان يحلم أن يكون عالماً رائداً في علم النفس، فبدأ يتخيل نفسه وهو في المعتقل، أنه يستلم جائزة لكتابه ويحتفل به مع الناس، ذلك الكتاب الذي وضع فيه أفكاره الأساسية وهو في المعتقل يصارع الآلام والجوع والتعذيب، لكنه لم يستسلم ولم يخضع للألم.
بل سخّر تلك الظروف لتخدم هدفه وشغفه، وكان يفسر ويحلل كل تلك الظروف التي تمر به، وكان يرسم فلسفته الخاصة في السجن، يبحث فيها عن معنى الحياة لدى الإنسان، وكان مختبره وتجاربه هي الظروف المحيطة به والسجن الضخم الذي يضمه.
ورغم الألم الذي كان يعيشه واليأس الذي يحيط به، فإنه بهمة عالية وشغف كبير استطاع أن يطوّر نظريةً في علم النفس وهو في المعتقل، حيث رأى "فرانكل" أن الناس مدفوعون بشكل فطري نحو السعي لإيجاد معنى لحياتهم، وأن هذا الحس بالمعنى هو الذي يُمكّن الناس من التغلب على التجارب المؤلمة التي تمر بهم.


وقد عرض في كتابه الشهير "الإنسان يبحث عن المعنى" تجربته كسجين في معسكرات الاعتقال، وتحدث فيه عن اليأس والأمل، ورغبة الحياة التي تساعد الإنسان على الاستمرار والبقاء، رغم القهر والألم، وقسم كتابه إلى قسمين: الأول تناول فيه تجربته القاسية والظروف القاهرة التي مر بها والأحداث التي حصلت في معسكر الاعتقال، والثاني تناول فيه المبادئ الأساسية للعلاج بالمعنى.
بشغفه بفهم النفس البشرية منذ صغره، وعدم حياده عن شغفه رغم شدة ظروفه، أصبح "فرانكل" صاحب نظرية عظمية في مجال العلاج النفسي، ومصدر إلهام كبير للعديد من علماء النفس، ويعتبر "فرانكل" أحد مؤسسي العلاج بالمعنى، الذي هو شكل من أشكال العلاج النفسي الوجودي.
وبعد ثلاث سنوات قضاها "فرانكل" في معسكرات الاعتقال عاد إلى فيينا، وفي عام 1955، مُنِح "فرانكل" درجة الأستاذية في علم الأعصاب والطب النفسي من جامعة فيينا، وفي عام 1961 أقام كأستاذ زائر في جامعة هارفرد، وحاضر ودرّس في العديد من الجامعات حول العالم، وحصل على 29 درجة دكتوراه فخرية، ونشر 39 كتاباً، تُرجمت إلى حوالي 40 لغة.


توفي "فرانكل" نتيجة أزمة قلبية عام 1997 عن عمر يناهز 92 عاماً، وعاش حياته شغوفاً بفهم بالنفس البشرية والبحث عن عمّا يخفّف من آلماها ويرتقي بها.


واستطاع من خلال شغفه أن يصنع صرحاً معرفياً وإرشادياً عظيماً في علم النفس، وتأسيسه لنظرية العلاج بالمعنى، وتخبرنا سيرة حياته بأنَّ الإنسان إذا كان لديه شغف بأمر معيّن فإنه يستطيع أن ينجح فيه ويبدع فيه مهما كان عمره أو تخصصه.
ولنا في قصة حياته بصائر ترشدنا إلى الإنسان يستطيع أن يتجاوز آلامه ويحقق شغفه، طالما هناك أملٌ يدفعه ويحركه.